top of page

في قضية حادث السير.. هل كان بإمكان الادعاء العام المطالبة بعقوبة أشد؟



الحوادث المرورية التي ينجم عنها وفيات أو إصابات جسيمة تستوجب بحثا قانونيا دقيقا، نظرا لما تطرحه من تساؤلات حول مدى كفاية العقوبات المقررة ومدى تحقيقها للردع المطلوب؛ فالمبدأ الذي تقوم عليه العدالة الجنائية في مثل هذه القضايا هو تحقيق التوازن بين التشديد الكافي لردع السلوك المتهور، وضمان عدم المغالاة في العقوبة بما يخرجها عن مقاصدها القانونية.

وقد نص قانون المرور في المادة (50) على عقوبة السجن والغرامة لكل من ساق مركبة بطريقة تشكل خطورة على حياة الأشخاص أو أموالهم، أو تعمد تجاوز الأماكن الممنوعة، أو ارتكب أفعالًا تعرض مستخدمي الطريق للخطر، كما شددت المادة (50 مكرر) العقوبات إذا وقع الفعل تحت تأثير المخدرات أو الكحول، حيث قررت السجن لمدة لا تقل عن شهر ولا تزيد على سنة، وغرامة لا تقل عن 400 ريال عماني ولا تزيد على 800 ريال عماني، مع مضاعفة العقوبة إذا نجم عن ذلك إصابات أو وفيات.

أما فيما يتعلق بالسياقة بعكس اتجاه السير في طريق مفصول الاتجاهات، فقد تناولته المادة (49) من القانون ذاته، حيث نصت على عقوبات تصل إلى السجن لثلاثة أشهر وغرامة تصل إلى 500 ريال عماني، وهي عقوبة قد تبدو غير متناسبة مع حجم المخاطر التي قد يسببها هذا الفعل، لا سيما عندما يكون هناك تعمد واضح من السائق للسير في الاتجاه المعاكس، مما يجعل احتمال وقوع الحوادث مرتفعا جدا.

في الحكم الصادر بحق السائق الذي قاد مركبته بعكس الاتجاه بسرعة عالية، مما أدى إلى وفاة أربعة أشخاص، تم تطبيق أقصى ما يتيحه القانون من عقوبات وفق المادة (50 مكرر)، والتي نصت على السجن لمدة لا تقل عن ستة أشهر، ولا تزيد على سنتين، مع الغرامة وسحب الرخصة والإبعاد في حالة كان الجاني غير عماني. وقد رأى البعض أن العقوبة غير متناسبة مع فداحة النتيجة التي ترتبت على الحادث، لكن من الناحية القانونية، فإن الادعاء العام قد طالب بأقصى عقوبة يسمح بها القانون حاليًا، مما يجعل المسألة ليست في مدى تشدد الادعاء العام، وإنما في مدى كفاية النصوص القانونية ذاتها.

يفرق القانون بين القتل العمد، الذي يتطلب قصدا جنائيا واضحا لإزهاق الروح، وبين الحوادث المرورية التي تقع بسبب الإهمال أو التهور، ورغم أن الإهمال الجسيم لا يرقى إلى القصد الجنائي المباشر، إلا أن بعض الأفعال، مثل السياقة بعكس الاتجاه أو تحت تأثير الكحول، تعد من صور التهور الشديد الذي يستدعي مراجعة الإطار القانوني للعقوبة، بحيث يكون هناك تصنيف أدق للحالات التي يكون فيها الإهمال الجسيم مساويًا للنية الإجرامية في خطورته.

تُطرح مقارنة في بعض الأوساط بين هذه القضية وقضية الشاب الأمريكي كاميرون هيرين، الذي صدر بحقه حكم بالسجن 24 سنة إثر حادث دهس وقع أثناء سباق غير قانوني، حيث يرى البعض أن التشريعات في بعض الدول تميل إلى تغليظ العقوبات في مثل هذه الحالات، بينما المشرع العماني يراعي التوازن بين الردع وتحقيق العدالة، بحيث لا يُفرَض على المتهم عقوبة تتجاوز حدود الفعل المرتكب، ولا تكون العقوبة مخففة إلى حد يجعلها غير كافية لردع المخالفين.


ومن القضايا التي تثير جدلا قانونيا وأمنيا مسألة استغلال الحوادث المرورية كوسيلة متعمدة للقتل، حيث قد يبدو الحادث في ظاهره ناتجًا عن تهور أو خطأ غير مقصود، لكنه في بعض الحالات يكون مدبرا لتحقيق أهداف إجرامية، مثل القتل العمد أو الانتقام، وفي مثل هذه الحالات، تباشر السلطات الأمنية والجهات القضائية تحقيقات موسعة لكشف ملابسات الحادث، والتحقق مما إذا كان عرضيا أم جريمة مخططة بعناية.

تلعب السلطات المختصة، ممثلة في الأجهزة الأمنية والادعاء العام، دورا محوريا في التصدي لمثل هذه الجرائم، حيث لا تقتصر التحقيقات على الإجراءات التقليدية، وإنما تشمل تحليلا تفصيليا ودقيقا لكافة العناصر المتعلقة بالحادث، بحيث يتم فحص مسار المركبة، وسرعة السائق، وأي مؤشرات تدل على التخطيط المسبق، خصوصا إذا كان الحادث يستهدف شخصا بعينه أو وقع في ظروف مشبوهة توحي بوجود نية إجرامية.


وتتولى السلطات التحقيق في الحادث تحت إشراف الادعاء العام، حيث يتم استجواب الجاني، والاستماع إلى أقوال أهل الضحية والشهود، وتحليل مسرح الحادث بشكل شامل، كما يجري فحص المركبة بدقة لمعرفة السرعة التي كان يسير بها السائق، وما إذا كان تحت تأثير المخدرات أو الكحول، أو إذا كانت هناك أي أدلة تقنية تدعم فرضية التخطيط المسبق، مثل التلاعب في أنظمة المركبة أو تعمد الاصطدام بطريقة معينة.

وفي حال وجود أي شبهة جنائية، توسع السلطات نطاق التحقيق ليشمل دائرة أوسع من المشتبه بهم، سواء من لهم علاقة مباشرة بالحادث أو من قد يكون لهم دافع في ارتكابه، و يهدف هذا النهج إلى الحيلولة دون تمرير أي حادث متعمد على أنه مجرد خطأ مروري، مما يمنع استغلال الطرق كوسيلة للقتل العمد أو تصفية الحسابات.

القوانين ليست ثابتة وتتطور وفق الحاجة، وعند ازدياد مثل هذه الحوادث، قد يكون هناك مجال لمراجعة العقوبات وتغليظها في الحالات التي تكون فيها المخالفة بالغة الخطورة، مثل القيادة تحت تأثير المخدرات أو القيادة بعكس الاتجاه، لا سيّما إذا ترتب على ذلك وفيات متعددة، وأما العقوبة التي صدرت في هذه القضية جاءت وفق أقصى ما يحدده القانون حاليًا، مما يؤكد أن الادعاء العام لم يتهاون في تطبيق الإجراءات القانونية، وقد قام بعمله على اكمل وجه، لكن تشديد العقوبات تظل مسألة تشريعية يختص بها المشرّع، وفق ما تستدعيه المصلحة العامة.


بقلم المحامي/ محمد بن سعيد المعمري

شــــــــــركة الـــــمـــعمري والـــــســعيدي

محــــــــامون ومستشــــــارون في القانون

هاتف: 90605000

البريد الالكتروني: info@mflegal.net - mohd@mflegal.net


 
 
bottom of page