الخيانة الزوجية في زمن مواقع التواصل الاجتماعي ... بيوت على حافة الانهيار
- Almamri & Assaidi

- 1 نوفمبر
- 4 دقيقة قراءة

الزواج أعمق من عقد يوثق بين رجل وامرأة، فهو عهد يقوم على الوفاء والإخلاص، وقد صوره القرآن الكريم في قوله تعالى: "ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة"، هذه الآية ترسم ملامح العلاقة التي أرادها الله للبشر، علاقة تقوم على السكن والرحمة وتعتمد على الصدق والثقة، ومع تطور الحياة وتغير وسائل التواصل بين الناس أصبح هذا العهد يواجه صورا جديدة من الخيانة تهدد جوهره، خيانة تمارس في فضاءات مفتوحة تهز الثقة وتبدد المودة.
يرى إدوارد ويسترمارك في كتابه تاريخ الزواج أن هذه المؤسسة، منذ نشأتها، كانت وسيلة لتنظيم الغريزة وحماية النسل، ثم تحولت إلى نظام أخلاقي يقوم على التعاون والإخلاص؛ فالإنسان حين تجاوز حاجاته البدائية بدأ يبحث عن الرفقة والصدق والتكامل، وعد الوفاء شرطا لدوام العلاقة، وأشار إلى أن المجتمعات التي احترمت الولاء داخل الزواج كانت أكثر استقرارا؛ لأن خيانة الفرد ليست انحرافا شخصيا فقط، فهي هدم لبنية الثقة في الجماعة، وهذا التصور يوضح أن الخيانة ليست خروجا عن الحب، لكنها انحراف عن التوازن الإنساني الذي يقوم عليه الاستقرار.
تشير الدراسات الاجتماعية الحديثة إلى أن الاستخدام المفرط لمواقع التواصل أنتج ما يسمى بالخيانات الصامتة، حيث تبدأ المشاعر الرقمية برسائل بسيطة في ظاهرها ثم تتحول إلى ارتباط عاطفي يضعف العلاقة الواقعية بين الزوجين، وتبين دراسات في علم النفس الأسري أن التواصل الإلكتروني المتكرر مع الغرباء يقلل من الإشباع العاطفي ويخلق حالة من المقارنة الدائمة؛ فينشأ شعور بعدم الرضا يقود أحد الطرفين إلى العالم الافتراضي بحثا عن اهتمام مفقود، فتتحول الشاشة إلى مرآة مشوشة للحب وتسحب العاطفة من موضعها الطبيعي إلى واقع هش يفتقد الصدق.
في المجتمع العماني كان الزواج مؤسسة تقوم على الحياء والمسؤولية، فالعائلة نواة الاستقرار، والإخلاص عنوان الكرامة، والزوجة تجد في زوجها أمانا، والزوج يرى فيها حرزا وسكينة، وحين تقع الخيانة كان الناس يعدونها عارا يهدد شرف الأسرة، ومع دخول التقنيات الحديثة تغير المشهد؛ فالمنازل أصبحت مفتوحة على العالم من خلال الهاتف، والخصوصية تراجعت أمام التفاعل المستمر، وبعض البيوت اهتزت بسبب رسالة، وقلوب انكسرت بسبب صورة، وأطفال نشؤوا على فكرة أن الحب قابل للاستبدال وأن الوفاء ترف نادر، وهذه التحولات لم تنشأ فجأة؛ فهي نتيجة زمن أزال الحواجز بين المباح والمستور وأتاح للفضول تجاوز حدود الطمأنينة.
نص قانون الأحوال الشخصية على أن الزواج عقد غايته الإحصان وإنشاء أسرة مستقرة تقوم على المودة والرحمة، وأوجب على الزوجين حسن المعاشرة وتبادل الاحترام والعطف والمحافظة على خير الأسرة، وهذه النصوص تمثل إطارا أخلاقيا يوجه الإنسان نحو إدراك الثقة بوصفها مسؤولية روحية قبل أن تكون حقا متبادلا، وتذكر بأن الوفاء قيمة تتقدم على المصلحة، وأن الإخلاص طريق لحفظ المودة واستمرار السكن؛ فالقوانين لا تقدر على حماية العهد إذا غابت التقوى؛ لأن القلب هو الحارس الأول للعلاقة، والنية سور يصون المودة من الانهيار، وعندما يضعف الضمير تضعف الروابط التي تحمي الأسرة من التفكك، فيتحول العقد من ميثاق مقدس إلى علاقة خاوية من المعنى.
تحدث ويسترمارك بإسهاب عن الغيرة الزوجية وعدها إحساسا فطريا غايته حماية العلاقة من الانتهاك، ورأى أن المجتمعات التي حاولت إلغاء هذا الإحساس فقدت قدرتها على التمييز بين الوفاء والتراخي الأخلاقي؛ فالغيرة في نظره وعي بالمسؤولية تجاه الشريك وصوت داخلي يحرس حدود المودة، وأوضح أن الخيانة لا تبدأ بالفعل المادي؛ إنها تبدأ بانحراف الشعور الذي يسبق السلوك، وعندما تتسلل إلى النفس تضعف القيمة الأخلاقية للعلاقة حتى تذوب المودة وتضمحل الثقة، وهذا ما تؤكده دراسات علم الاجتماع المعاصرة التي ترى أن التفاعلات العاطفية عبر الوسائل الرقمية قد تكون أشد خطرا من الأفعال المادية؛ لأنها تحدث شرخا في الوجدان وتضعف الإحساس بالالتزام، فيتحول الحوار الافتراضي إلى مدخل للاضطراب العاطفي، وتغدو الكلمة العابرة بداية تصدع في جدار الأسرة، فتضيع الثقة التي يقوم عليها الزواج ويتحول السكن الذي أراده الله مودة ورحمة إلى مساحة يسكنها الشك والفراغ.
تكشف الإحصاءات الحديثة في عمان عن ارتفاع في حالات الطلاق خلال السنوات الأخيرة، ويعزو باحثون جانبا من هذا الارتفاع إلى سوء استخدام وسائل التواصل الاجتماعي وما تسببه من غيرة وشك وتراجع في الثقة بين الأزواج، ويرتبط هذا الواقع بالتحولات الثقافية والاقتصادية التي غيرت نمط الحياة الزوجية، فالزوجان اليوم يعيشان في عالم سريع الإيقاع يستهلك الوقت والذهن، ويواجهان فيضا من الصور المثالية للعلاقات عبر المنصات؛ مما يولد شعورا بالمقارنة المستمرة ويزرع في النفس توقعات زائفة تجعل الرضا صعبا وتدخل العلاقة في دوامة من الشك والانفصال العاطفي.
الحل لا يقوم على المنع وحده، لأن المشكلة لا تكمن في التقنية ذاتها، فهي تتصل بطريقة التعامل معها، ولهذا على الزوجين أن يضعا حدودا واضحة لحياتهما الرقمية، وأن يمارسا وعيا يحميهما من مواطن الفتنة، فالتربية على الوفاء تبدأ منذ الصغر حين يغرس في القلب أن الأمانة ليست قولا، إنها سلوك يثبت في السر والعلن، كما أن الإخلاص لا يقوم على المراقبة، بل على الشعور بالمسؤولية تجاه الآخر، وفي البيت العماني الأصيل ما زالت الجدات يرددن حكمة متوارثة تقول: الستر زينة، والثقة رزق، والخيانة نار لا تطفأ، وهي عبارة تختصر خلاصة التجربة الإنسانية، لأنها تعبر عن فهم يدرك أن الاستقرار لا يقوم على السيطرة، فهو يقوم على النية الصادقة والثقة المتبادلة.
الزواج في جوهره عهد أمام الله، لا يحفظ بالقوانين وحدها، ولا ينهار بخطأ عابر ما دامت هناك رغبة في الإصلاح، وخطر وسائل التواصل ظهر حين جعل الغياب سهلا والاستبدال ممكنا والنسيان عادة، فتحول الحب إلى مشاعر بلا جذور وفقد معناه الأصيل، وحين يغيب الضمير تتكاثر المبررات ويعاد تعريف الخطأ بأسماء براقة تخفي جوهر الخيانة، ولهذا يحتاج الإنسان اليوم إلى يقظة تعيده إلى المعنى الذي بدأ به الله آيات الزواج: " لتسكنوا إليها"، فالسكن لا يتحقق بالخداع، ولا تبنى الرحمة على الكتمان، ولا يعيش الحب في ظل الخيانة ولو كانت خلف شاشة، والحياة الزوجية تبقى ما دام القلب يعرف طريقه بين الإخلاص والخلاص.
بقلم المحامي/ محمد بن سعيد المعمري
شـــــــركة الـــــمـــعمري والـــــســعيدي
محــــامون ومستشــــــارون في القانون
هاتف: 90605000
البريد الالكتروني: info@mflegal.net - mohd@mflegal.net




