top of page

الهاتف الشخصي بين حرمة المتوفى، حدود العلاقة الزوجية، والحق في الامتناع عن الإفصاح أثناء التحقيق



في ظل الثورة التقنية التي أعادت تشكيل مفاهيم الخصوصية، لم يعد الهاتف المحمول مجرد أداة اتصال، إذ تحول إلى خزانة رقمية تحتضن بيانات حياة حامله، حيث يحتفظ بأفكاره، انفعالاته، مراسلاته، صوره، ومعلوماته الشخصية؛ مما يجعله امتدادًا لهويته ومرآة لذاكرته، ويفرض هذا الواقع التعامل مع الهاتف وفق أحكام الحماية القانونية والضوابط الأخلاقية، سواء خلال حياة الفرد، بعد رحيله، في إطار علاقاته الأسرية، أو أثناء الإجراءات الجزائية.

عندما سُئل أحد الفقهاء عن مشروعية الاطلاع على هاتف متوفى لاستخلاص بيانات يراها الأقارب أو الجهات المختصة ضرورية، أجاب: “غير جائز”، موضحًا أن البيانات المحفوظة تُعد من العناصر التي تشملها حرمة الحياة الخاصة، ولا يجوز الاطلاع عليها إلا لضرورة قصوى، وبشروط قانونية دقيقة؛ إذ يعكس هذا الموقف مبدأً قانونيًا: البيانات الرقمية لا تُعد أموالًا منقولة، ولا تنتقل حيازتها تلقائيًا بعد الوفاة، مما يؤكد أن حرمة الخصوصية تتجاوز حدود الحياة.

وفي سياق العلاقات الزوجية، يعتقد البعض أن عقد الزواج يخول أحد الزوجين الاطلاع على هاتف الآخر بدافع الشك أو الحيطة، لكن هذا الاعتقاد يتعارض مع مبادئ الثقة والاحترام، التي تستند إليها العلاقة الزوجية؛ فالحياة الخاصة حق أصيل، لا يسقط بالزواج، ولكل فرد نطاق شخصي، لا يجوز المساس به دون موافقته، والقانون العماني من ضمن قوانين الدول، التي تحترم الحقوق الفردية، وتعد هذا الاطلاع انتهاكًا للخصوصية، وقد تصنفه جريمة معاقب عليها.


أما أثناء الإجراءات الجزائية ( التحقيق)، فيمتنع بعض الأفراد عن فتح هواتفهم، أو الكشف عن رموز الوصول، ويُعد هذا الامتناع ممارسة مشروعة لحق الصمت، المقرر في القانون، حيث يحتوي الهاتف على بيانات رقمية، قد تشمل معلومات لا صلة لها بالدعوى، أو تتعلق بأطراف آخرين؛ لذا فإن الاطلاع عليه دون ضوابط يعرض حامله لانتهاك غير مبرر.


كما تنص المادة (36) من النظام الأساسي للدولة على حماية الحياة الخاصة، وصون المراسلات ووسائط الاتصال، مع حظر الاطلاع عليها إلا بإذن قضائي، ووفق القانون، بينما يشترط قانون الإجراءات الجزائية موافقة الادعاء العام، قبل تفتيش الأجهزة الإلكترونية، ويؤكد قانون حماية البيانات الشخصية، الصادر بالمرسوم السلطاني رقم 6/2022، هذا التوجه؛ إذ يحظر جمع البيانات الشخصية، معالجتها، أو الإفصاح عنها دون موافقة صريحة من صاحبها، إلا في حالات الضرورة المشروعة، ووفق شروط محددة.

وتُعد البيانات الإلكترونية، التي تُعرّف الفرد أو تجعله قابلاً للتحديد، بيانات شخصية، تشمل ما يخزن في الهاتف من معلومات، صور، ومراسلات، وإلزام الفرد بالكشف عن رمز الوصول، أو تمكين السلطات من الاطلاع على بيانات هاتفه دون إذن قضائي، يُعد إخلالًا بحرمة البيانات، التي يكفلها القانون؛ ما لم تنطبق استثناءات الضرورة، التي تقررها السلطة القضائية، ويتيح قانون حماية البيانات الشخصية لصاحب البيانات حق الاعتراض، وتقديم الشكاوى عند أي انتهاك.

ويقارن البعض بين الامتناع عن تقديم عينة بيولوجية، كفحص المواد المحظورة، ورفض فتح الهاتف، لكن الفحص البيولوجي يستهدف إثبات حالة آنية، بينما يحتوي الهاتف على سجل رقمي، يمتد لحياة الشخص؛ مما يجعل الاطلاع عليه مخاطرة بانتهاكات أوسع، ويقارب تسليم رمز الوصول الاعتراف القسري، وهو ما يتعارض مع المبادئ القانونية الجزائية.


وإذا طرح تشريع يُجرّم رفض فتح الهاتف، فإنه سيواجه تحديات دستورية وحقوقية، حيث تُعد الحياة الخاصة حقًا أساسيًا، يرتبط بكرامة الإنسان، ولا يُقيد إلا لضرورة قصوى، وبحدود القانون؛ لذا يُفضل تعزيز الوسائل التقنية للتحقيق، تحت رقابة قضائية دقيقة، لاستخلاص الأدلة دون المساس بالحقوق.

يبقى الهاتف المحمول أداة تختزن حياة حامله بكل تفاصيلها، وحماية خصوصيته تعزز الثقة في العدالة، بينما يضعف المساس بها هذه الثقة؛ فالتوازن بين متطلبات التحقيق وحقوق الأفراد يتطلب تشريعا واعيا، يضع الإنسان في موضع الاحترام، ويكفل للعدالة ممارسة دورها ضمن حدودها المشروعة.


بقلم المحامي/ محمد بن سعيد المعمري

شـــــــركة الـــــمـــعمري والـــــســعيدي

محــــامون ومستشــــــارون في القانون

هاتف: 90605000

البريد الالكتروني: info@mflegal.net  - mohd@mflegal.net


 
 
bottom of page