top of page

كرامة الطفل لا تساوم!


تشكل وسائل التواصل الاجتماعي فضاءً واسعًا يعج بالمحتوى المتنوع، لكنها كشفت في الوقت نفسه عن جانب مظلم يتمثل في استغلال الأطفال لتحقيق أغراض ترويجية أو ترفيهية. على سبيل المثال، يُجذب هؤلاء الصغار إلى لقطات تُصمم لزيادة التفاعل والمشاهدات، تحت ذرائع براقة كالنجومية أو المرح، دون اكتراث بالتبعات النفسية أو الاجتماعية التي قد تُصيبهم، وهو ما يستدعي تحركًا جادًا لحمايتهم من أضرار هذه السلوكيات.


كذلك، تظهر خطورة هذه الممارسات في مقاطع تُنشر على منصات التواصل الاجتماعي، حيث يُواجه الأطفال مواقف مرعبة أو محرجة، أو يُعرضون بطريقة تُهدر كرامتهم، بدعوى الإثارة أو الدعابة. من الأمثلة على ذلك، قيام أحدهم بمحاولة وضع رأس طفله داخل غسالة ملابس كجزء من مقطع ترفيهي، في مشهد قد يبدو للبعض مزاحًا، إلا أن المشرع لا يفرق بين المزاح والجد حين يتعلق الأمر بسلامة الطفل؛ فالدولة تتحمل مسؤولية حمايته قبل حتى ولي أمره، ولا يُسمح بهذا النوع من التصرفات بأي حال، فالأمر لا يقتصر على سلامة الطفل وحده، وإنما يشمل كذلك أثر ما يُعرض على المجتمع، باعتبار أن القانون وُضع لحماية الطفل والبيئة الاجتماعية المحيطة به.


وفي مشهد آخر من مشاهد الاستغلال المقنَّع، تُقام مسابقات ظاهرها البراءة، يُغرى فيها الأطفال بجوائز تبدو ثمينة، بينما تخفي خلف واجهتها المتقنة واقعًا مختلفًا؛ إذ تكون الجوائز الحقيقية زهيدة، لا تكاد تُقارن بما يُعرض للمشاهد من وعود براقة. وحتى إن كان الطفل على دراية مسبقة بهذه التفاصيل، فإن ما يُزرع في داخله لا يقل خطورة: مفاهيم ملتبسة عن الصدق، وتطبيع غير واعٍ مع الخداع، في مرحلة يُفترض أن تُغذّى فيها روحه بقيم النقاء والنزاهة.


يبدو أن بعض مشاهير التواصل الاجتماعي قد أدركوا أن المقاطع التي يظهر فيها الأطفال تحصد تفاعلًا مرتفعًا، نظرًا لعفويتهم الفطرية في زمن طغى عليه التصنع. غير أن هذا الإدراك لم يُستثمر دائمًا في الاتجاه الصحيح؛ فقد استغله البعض بطرق تفتقر إلى المسؤولية، فوجهوا الأطفال إلى تصرفات غير لائقة، أو استخدموهم وسيلة لجذب الانتباه، دون اكتراث بالأثر النفسي أو الأخلاقي الذي قد يتركه ذلك في نفوسهم.


كما تعمد بعض الأمهات، بعد وقوع الفرقة بين الزوجين، إلى تصوير أطفالهن في أوضاع تبعث على الشفقة أو الإحراج، كأن يظهر الطفل بملابس بالية أو في حالة بكاء، أو يُلمح من خلال المقطع إلى أنه يُربى بعيدًا عن والده. هذه التصرفات قد تحمل رسائل غير مباشرة تُوجه إلى الأب، توحي بأن الطفل يعيش في بيئة تختلف عن تلك التي كان سيحظى بها معه، وتُظهر أفرادًا من عائلة الأم وكأنهم البديل في التربية. هذا الاستغلال لموقع الحضانة يخل بمصلحة الطفل، ويكشف عن جانب مظلم من الممارسات التي تختلط فيها مشاعر الانتقام برغبة إثبات السيطرة.


بتأمل قانون الطفل الصادر بالمرسوم السلطاني رقم 22/2014، يظهر بوضوح مدى تشدد المشرع العماني في حماية الطفل من أي انتهاك. لم يكتف القانون بوضع مبادئ عامة، بل أسس منظومة متكاملة تستجيب سريعًا لأي تهديد، فكل تعدٍ على الطفل يُعد جريمة تمس النظام العام، ويكفي فيها الإبلاغ دون الحاجة إلى موافقة ولي الأمر.


عرف القانون الطفل في المادة (1) بأنه “كل من لم يبلغ الثامنة عشرة ميلاديًا”، ومن هذا التعريف تنطلق الحماية القانونية، فتُبسط مظلتها على كل المراحل العمرية للطفولة. كما نصت المادة (2/ج) على أن “مصلحة الطفل الفضلى تُعد أولوية في كل إجراء أو قرار”، سواء من الجهات الإدارية أو القضائية أو الرعائية، مما يُلزم الجميع بتقديم هذه المصلحة على أي اعتبار آخر.


وجاءت المادة (7) لتؤكد حق الطفل في الحماية من العنف والاستغلال والإساءة، وفي معاملة تحفظ له كرامته وشرفه. وقد أُسند إلى الدولة واجب تحقيق هذا الحق بكل الوسائل الممكنة، مما يُحتم التدخل السريع والفاعل. المادة (56) حرّمت صراحة كل الأفعال التي تُعرض الطفل للخطر، سواء كانت مادية أو نفسية، وأدرجت تحت ذلك الخطف، والبيع، والاعتداء الجنسي، والاتجار، والتصوير غير الأخلاقي، ونقله عبر الحدود، ومظاهر العنف.


ولتفعيل هذا الإطار، أمر القانون بتشكيل “لجان حماية الطفل” بموجب المادة (60)، ومنحها صفة الضبطية القضائية، لتتمكن من التحرك فور العلم بأي حالة، دون تأخير. كما قررت المادة (62) أن الإبلاغ عن أي انتهاك حق مشروع لكل شخص، مع ضمان عدم كشف هوية المبلغ. وألزمت المادة (63) فئات مهنية كالأطباء والمعلمين وغيرهم ممن تصلهم معلومات بحكم عملهم بالإبلاغ الفوري، مما يُكرس مبدأ المسؤولية المشتركة.


وفي الحالات التي يثبت فيها تعرض الطفل للإساءة، أجازت المادة (64) للادعاء العام إصدار قرار بإيداعه “دار الرعاية المؤقتة” بناءً على توصية من مندوب حماية الطفل، لضمان سلامته وتأهيله حتى زوال الخطر.


ولتأكيد هذا الحزم، جاءت المادة (72) لتقرر عقوبات صارمة بحق من يرتكب الأفعال المحظورة، حيث يُعاقب بالسجن من خمس إلى خمس عشرة سنة، وبغرامة تتراوح بين خمسة آلاف وعشرة آلاف ريال عماني، مما يُظهر أن الدولة لا تتهاون في حماية الطفولة.


هذا النظام التشريعي لا يقتصر على تعداد المحظورات، فهو يحث الدولة بكل مؤسساتها على أن تنهض بدورها في حماية الطفولة، ويجعل من رعاية الصغار مسؤولية وطنية تتجاوز حدود الأسرة؛ فحين صاغ المشرّع هذا القانون، كان يرى في الطفولة لبنة تُقام عليها دعائم الأوطان، وحمايتها واجب يتقدّم على سائر اعتبارات الحاضر وتحديات المستقبل.



قلم المحامي/ محمد بن سعيد المعمري

شــــــــــركة الـــــمـــعمري والـــــســعيدي

محــــــــامون ومستشــــــارون في القانون

هاتف: 90605000

البريد الالكتروني: info@mflegal.net - mohd@mflegal.net


 
 
bottom of page