العضل في الزواج... بين مسؤولية الولاية وحق المرأة في الاختيار
- Almamri & Assaidi

- 4 نوفمبر
- 5 دقيقة قراءة

الأسرة هي المنطلق الذي يتكون فيه وعي الإنسان وفيها يتعلم موازنة العقل والعاطفة ويكتسب معنى المسؤولية والانتماء، ومن خلالها تتشكل الموازين الأولى للعدل وتنغرس القيم بالممارسة والقدوة فينشأ الفرد على الرحمة والاحترام المتبادل، وحين تضعف الأسرة يضطرب الإحساس بالاتزان وتغيب مرجعية الحوار فيميل القرار إلى الانفعال ويبتعد السلوك عن مقاصد الدين في الحكمة والرحمة. ومن صور هذا الاضطراب ما يعرف بالعضل، وهو امتناع الولي عن تزويج موليته بالكفء الذي رضيت به دون سبب معتبر، وهذه الحالة تعبر عن خلل في فهم الولاية التي جعلها الله تكليفًا يقوم على الرعاية والإصلاح، فالولي مؤتمن على مصلحة المرأة وكرامتها، والولاية في جوهرها مسؤولية تحفظ المودة وتقيم الأسرة على التعاون والرحمة.
قال تعالى: "فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ"، وهي آية تقرر مبدأ الحرية المسؤولة في الزواج وتضع حدودًا تحمي المرأة من التعسف في استعمال الولاية، فالتكليف في جوهره رعاية لا سلطة. وقد نظم قانون الأحوال الشخصية العماني الصادر بالمرسوم السلطاني رقم 32/1997 أحكام الولاية في الزواج، فنص في المادة (11) على أن الولي هو العاصب بنفسه على ترتيب الإرث، واشترط أن يكون ذكرًا عاقلًا بالغًا غير محرم بحج أو عمرة، ومسلمًا إذا كانت الولاية على مسلمة. كما بينت المادة (251) ترتيب العصبة بالنفس ابتداءً من الأبناء، ثم الآباء، فالإخوة، فالأعمام وأبنائهم، أما المطلقة أو الأرملة فتكون ولايتها لابنها البالغ العاقل المسلم متى توافرت فيه الأهلية. واستقر قضاء المحكمة العليا على أن القاضي لا يتدخل إلا إذا امتنع الولي دون مسوغ معتبر أو فقد شرط العدالة، فيباشر الولاية تحقيقًا للإنصاف وصونًا للحقوق.
وأكد المرسوم السلطاني رقم 55/2010 هذا التنظيم بجعل دائرة المحكمة الشرعية بالمحكمة العليا الجهة المختصة دون غيرها بالفصل في دعاوى العضل، ومنح المرأة حق التظلم من الحكم أمام جلالة السلطان خلال ثلاثين يومًا من تاريخ صدوره، مما أوجد إطارًا تشريعيًا يجمع بين الجانب الموضوعي والإجرائي ويضمن للمرأة حقها في الزواج ضمن نظام قانوني متوازن يحفظ كرامتها ومصلحتها.
وعندما ينظر القضاء دعاوى العضل، فإنه يوازن بين رغبة المرأة في الزواج وشرط الكفاءة الذي يعد أساس التوازن الأسري، وقد قررت المحكمة العليا أن الكفاءة تشمل الدين والخلق والعادات والنسب والمكانة الاجتماعية، لأن الزواج عقد مودة وسكن يقوم على التفاهم والاحترام، فالتكافؤ يمنع التنافر ويسهم في استمرار الحياة الزوجية بروح المسؤولية، وهو مقصد شرعي واجتماعي يرمي إلى تحقيق المصلحة العامة وحماية الأسرة من الاضطراب. ومن خلال الممارسة القضائية يظهر أن القضاء العماني يتجه إلى رفض دعاوى العضل متى ثبت اختلال شرط الكفاءة، لأن الزواج علاقة تقوم على المصلحة المتبادلة والتوافق الإنساني، فالكفاءة معيار موضوعي يحقق الانسجام ويمنع التصادم بين القيم والتصورات.
ويرى بعض الفقهاء أن مفهوم الكفاءة لا ينبغي أن يُفسر تفسيرًا اجتماعيًا ضيقًا، لأن التفاوت في العادات أو المكانة لا يمنع المودة إذا توافرت الأخلاق والدين، بينما يرى آخرون أن مراعاة الأعراف الاجتماعية ضرورية لحماية الاستقرار الأسري وتجنب الصدام بين البيئات المختلفة، وهو ما تبناه القضاء العماني عند تحديد معايير الكفاءة على نحو متوازن يجمع بين الواقع والمقاصد الشرعية، ويحقق مصلحة الأسرة دون الإخلال بحق المرأة في اختيار شريك حياتها.
وقد رسّخ القضاء العماني هذا الفهم في عدد من أحكامه، حيث أوضحت المحكمة العليا أن الولاية تمارس لتحقيق المصلحة الشرعية للمرأة وصيانة كرامتها، وأنها مسؤولية تُؤدى بروح الرعاية لا بدافع السيطرة أو العادة.
وجاء في أحد الأحكام أن الكفاءة في الزواج لا تقتصر على الدين فقط، فهي تشمل العادات والنسب والمكانة الاجتماعية، لأن التفاوت في هذه الجوانب قد يورث النفور ويهدد استقرار الأسرة، واستدلت المحكمة بما رواه ابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك" كما استشهدت بما ورد عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الثلاث لا يؤخرن: الصلاة إذا أتت، والجنازة إذا حضرت، والأيم إذا وجدت كفؤًا".
وبيّن الحكم أن عمل الفقهاء في أغلب البلاد الإسلامية جرى على مراعاة الكفاءة في الدين والنسب والعادات، وأن إغفالها يؤدي إلى اضطراب العلاقة الزوجية ويؤثر في المودة والاحترام بين الأسرتين. وخلصت المحكمة إلى أن الولاية تكليف يوجب على الولي أن ينظر في مصلحة موليته نظرة متجردة عن الأهواء والعادات، وأن امتناعه عن تزويجها بالكفء دون سبب معتبر يعد تعسفًا يوجب تدخل القضاء لرفع الضرر وإحقاق الحق.
الزواج قرار مصيري يحتاج إلى وعي عاطفي وعقلي متوازن، ومع تطور وسائل التواصل أصبحت العلاقات تبدأ بخطوات بسيطة تمتد إلى حديث يبعث شعورًا بالألفة، وقد تنشأ العاطفة من لحظة صدق تتحول إلى اندفاع غير محسوب ما لم يصحبها عقل راجح، والمرأة الواعية تدرك أن العاطفة الصادقة لا تكفي لبناء بيت مستقر ما لم تقم على فهم مشترك واحترام متبادل، فالحب وحده لا يمنح استقرارًا إذا لم يستند إلى توازن بين المشاعر والواقع. وقد قال قيس ليلى:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلبًا خاليًا فتمكّنا
وهذا البيت يصور بعمق كيف تتسلل العاطفة إلى القلب قبل الوعي بها، فإذا غاب الرشد تحولت المودة إلى اندفاع لا يدرك عواقبه صاحبه.
وحين يتعلق الاختيار بشخص من جنسية مختلفة تتضاعف الحاجة إلى التروي، لأن الزواج لا يجمع شخصين فقط بل ثقافتين وعائلتين، وقد فتح المرسوم السلطاني رقم 23/2023 باب الاختيار على نطاق أوسع بإلغاء القيود السابقة على زواج العمانيين من أجانب، غير أن هذا الانفتاح يستدعي وعيًا أكبر، لأن القانون لا يمنح أبناء المرأة العمانية من غير العماني الجنسية، مما يقتضي النظر في مستقبل الأبناء والبيئة التي سيُربَّون فيها، فالحياة الأسرية مسؤولية تمتد عبر الأجيال وتحتاج إلى بصيرة توازن بين العاطفة والعقل.
احترام رأي الأهل في مسائل الزواج علامة على النضج، فالأهل يرون بعين التجربة ما قد تعجز العاطفة عن إدراكه، والتجارب تثبت أن الحوار الهادئ داخل الأسرة يطفئ كثيرًا من التوتر، وأن الكلمة الصادقة بين أفراد البيت تغني عن النزاع أمام القضاء، والمجتمعات التي تحافظ على روابطها الأسرية تحافظ على توازنها النفسي والاجتماعي، لأن الإصغاء المتبادل والمصارحة هما خط الدفاع الأول ضد الانقسام والاضطراب.
وقد شهدت سلطنة عمان في السنوات الأخيرة تطورًا تشريعيًا ملحوظًا في مجال حماية المرأة وتنظيم شؤون الأسرة، فالقوانين الحديثة أكدت حقها في اتخاذ قراراتها ضمن إطار أحكام الشريعة وقيم المجتمع، وسُحبت بعض التحفظات التي كانت قائمة على اتفاقيات دولية حتى أصبحت النصوص الوطنية أكثر اتساقًا مع مبادئ العدالة والكرامة التي يقوم عليها النظام القانوني للدولة، ويعكس هذا التطور وعيًا مؤسسيًا يرى أن صون المرأة من التعسف في الولاية جزء من رؤية متكاملة لحماية التوازن الأسري واستقرار المجتمع على أساس من الرحمة والمسؤولية المشتركة.
العضل في جوهره ليس قضية قانونية فحسب، فهو انعكاس لوعي المجتمع بثقافة الحوار ومسؤولية القرار، فحين تمارس الولاية بالحكمة ويُفهم شرط الكفاءة فهمًا سليمًا وتبنى القرارات على المصلحة والمشاورة، تغلق أبواب النزاع قبل أن تُفتح، والقضاء يتدخل حين تعجز الأسرة عن الحل الداخلي ليضع الحكم الذي ينهي الخصومة من الناحية القانونية، غير أن التئام القلوب يحتاج إلى وعي وصبر ورحمة لا يملكها إلا من شعر بمسؤوليته تجاه من يحب.
الولاية في أصلها نظام رعاية لا سلطة، ومقصدها تحقيق المصلحة وصون الكرامة، ومن يتولاها بعقل راشد وعدل حكيم يقيم الأسرة على الرحمة والمودة ويحقق مقصود الشريعة في السكن والطمأنينة، وحين تبنى العلاقات على الحوار وتمارس الحقوق بروح المسؤولية تغلق أبواب العضل وتبقى الأسرة العمانية نموذجًا للتوازن بين الدين والقانون وبين العاطفة والعقل وبين الحرية والانضباط.
بقلم المحامي/ محمد بن سعيد المعمري
شـــــــركة الـــــمـــعمري والـــــســعيدي
محــــامون ومستشــــــارون في القانون
هاتف: 90605000
البريد الالكتروني: info@mflegal.net - mohd@mflegal.net




