من هرتزل إلى تيك توك.. مسار تحول القيم وصياغة أخلاق جديدة
- Almamri & Assaidi
- 5 أبريل
- 4 دقيقة قراءة

في أواخر القرن التاسع عشر، لم تقتصر الحركة الصهيونية على أهداف سياسية أو طموحات استعمارية، فقد رأى بعض قادتها، ومنهم تيودور هرتزل، أن الثقافة تمثل وسيلة بعيدة المدى لتغيير المجتمعات، وقد لمح هرتزل في كتابه الدولة اليهودية إلى ضرورة التأثير في العادات والأفكار من أجل صياغة واقع جديد، وهو توجه تجاوز حدود فلسطين ووجد صداه في عدد من المجتمعات الأوروبية.
في ألمانيا، برزت حركات فكرية مثل "الفن الجديد" دعت إلى كسر القيود الأخلاقية تحت شعارات الإبداع والحرية الفردية، لم تكن تلك الدعوات جزءًا عابرًا من المشهد، فقد فتحت المجال لموجة ثقافية أوسع هزّت البنية الاجتماعية الراسخة، ثم امتدت هذه الموجة إلى الولايات المتحدة، حيث وجدت في السينما والموسيقى والإعلام أدوات لإعادة تشكيل الوعي العام، وتبنت خطابًا يمجد الرغبات الشخصية، ويدفع الحياء إلى الهامش، ويستبدل القيم بالإثارة بوصفها مقياسًا للنجاح والتأثير.
هل كان الغرب على هذا النحو منذ البداية؟ الصور المؤرشفة من عشرينيات القرن العشرين ترسم مشهدًا مغايرًا؛ نساء بلباس محتشم في شوارع لندن ونيويورك، وحتى على الشواطئ، كانت الحشمة آنذاك جزءًا من ثقافة مجتمعية مستقرة، لم تُفرض بقانون ديني، ولم تُحتج لتذكير دائم أو حملات توعية، فقد كانت راسخة في السلوك العام ومتجذرة في الوعي الجمعي.
مع تسارع التحولات الثقافية، بدأ التيار ذاته يتسلل إلى المجتمعات العربية، ففي عام 1923، عادت هدى شعراوي من مؤتمر نسوي عقد في روما، ورفعت غطاء وجهها أمام حشد من الناس في محطة القاهرة، ووصفتها بعض الصحف بـ"المتبرجة"، فيما جاءت ردود الفعل الشعبية حادة ومستنكرة، غير أن الخطوة التي أقدمت عليها، تبدو اليوم بسيطة إذا ما قورنت بما أصبح مألوفًا في الفضاء العام.
بعد سنوات، تكرر المشهد في سياق رقمي جديد، حيث ظهرت امرأة عُمانية بوجه مكشوف على أحد تطبيقات التواصل، فجاءت التعليقات قاسية، خاصة من فئة من الرجال اعتبروا ظهورها خرقا لتعاليم للدين والعرف، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد؛ إذ سرعان ما برزت وجوه أخرى بمحتوى أشد جرأة، يعرضن الجسد بوضوح ويحولن التفاعل الجماهيري إلى وسيلة مباشرة لتحقيق الأرباح.
ضمن هذا التحول، لم يعد الجسد مسألة خاصة أو شخصية، فقد تحول إلى سلعة رقمية متداولة، كل صورة تحمل قدرا أكبر من الإثارة تضاعف عدد المشاهدات، وكل مقطع جريء يفتح مسارات لتحقيق العوائد، وفي كتاب شبه حرب: تسليح وسائل التواصل الاجتماعي، يشير بي دبليو سينجر وإيمرسون تي بروكينغ إلى أن المنصات الرقمية تجاوزت كونها أدوات تواصل، وتحولت إلى ساحات حرب نفسية تستهدف العقول بسرعة تتجاوز أثر الرصاص، حيث يصمم المحتوى بهدف إثارة المتلقي، ويدفع الجمهور ثمن تلك الإثارة من وعيه ووقته وسلوكه اليومي.
لم يعد المجتمع يستند إلى معيار أخلاقي ثابت، واتجه في أحكامه نحو منطق المقارنة المتدرجة، فالمواقف التي كانت مرفوضة بوضوح في الأمس توصف اليوم بأنها أقل حدة أو أقل ضررًا، ومع هذا التحول، بدأت بعض الأصوات الناقدة تتراجع، مدفوعة بالخوف من التصنيف المسبق أو الاتهام بالتخلف والتشدد.
تجربة تطبيق "تيك توك" تعكس هذا الاضطراب بوضوح، فقد حظر في بعض الدول مثل الهند لفترة مؤقتة، بدعوى احتوائه على محتوى غير أخلاقي ومخاوف تتعلق بالخصوصية، ثم أُعيد فتحه لاحقا بعد مراجعات وتعديلات، أما في عُمان، فقد واجه المستخدمون قيودًا منعت الوصول إلى التطبيق إلا من خلال أدوات تجاوز الحجب، ثم أصبح متاحا من جديد دون إعلان أو توضيح رسمي، هذا التباين في القرارات يثير تساؤلات مشروعة حول الجهة التي ترسم حدود الاستخدام، ومن يحدد ما يعتبر مقبولا أو مرفوضا، كما يكشف عن حالة من الغموض في التعامل مع المحتوى الأخلاقي، وربما يعكس وجود ضوابط أو تفاهمات إدارية بين الجهات المعنية وإدارة التطبيق حول طبيعة المحتوى وحدود انتشاره.
وسط هذا المشهد المتسارع، يبرز تساؤل حساس يتعلق بحدود التساهل في التعامل مع بعض أنماط المحتوى، ويُستدعى معه مصطلح “الدياثة” بما يحمله من حمولة شرعية واجتماعية ثقيلة، هل يُعد التغاضي عن محتوى فيه تبرج أو جرأة كافيًا لإلصاق هذا الوصف بشخص ما؟ الكلمة كثيرًا ما تُستخدم دون وعي بمعناها الدقيق، ففي أصلها الشرعي تشير إلى غياب الغيرة على المحارم، أو التساهل مع وقوع الفاحشة ضمن دائرة الأهل دون إنكار، ورغم أنها لا تُعد قذفًا بحد ذاتها، إلا أن إطلاقها على شخص بعينه، خاصة في سياقات التحقير أو الاتهام، قد يقترب من حدود القذف إذا خلا من بيّنة، واستخدامها دون تثبّت يعد تجاوزًا خطيرًا، يُقابل الفعل الذي يفترض رفضه، بموقف لا يقل ضررًا عنه.
ورغم أهمية الانضباط في استخدام الألفاظ، يبقى الواقع أكثر إلحاحًا من الجدل اللغوي، فما نراه اليوم من تحوّلات سريعة في المحتوى والسلوك يشير إلى مسار لا يتوقف عند الحدود الحالية، وإذا استمرت هذه الموجة دون توجيه فكري أو أخلاقي واضح، فقد نشهد خلال سنوات قليلة مشاهد أشد انكشافًا تعرض دون حرج، وتجد تبريرها في شعارات مكررة عن حرية الفرد والتنوع، فالتغيير لا يحدث دفعة واحدة، فقد يتسلل بهدوء حتى يتحول المألوف إلى مقبول، ويأخذ المقبول مكان الثابت، ويعامل مع الزمن كأنه أمر لا يناقش .
الخطر لا يقتصر على الصور الظاهرة، إنما يمتد إلى جيل ينشأ وهو يتلقى هذه الصور دون مقاومة أو توجيه واعٍ، ومن ستؤول إليهم مسؤولية الغد هم الذين يتشكل وعيهم اليوم وسط هذا التدفق المفتوح للمحتوى، والتربية لم تعد محصورة في الموعظة أو الإرشاد، فهي عملية مستمرة، تقوم على حضور الفعل، وثبات الموقف، ووضوح القدوة، أما التقنية، فهي أداة مفتوحة على الاحتمالات، يمكن أن تكون وسيلة بناء إذا وجهت بوعي، وقد تصبح أداة هدم إذا غابت النية الصادقة والرؤية الواضحة في استخدامها.
الحديث عن التربية لا يكتمل دون التوقف عند علاقة الجيل الجديد بالمال، فالمطلوب لا يقتصر على تعليمه أساليب الادخار أو الإنفاق، بل يتعدى ذلك إلى فهم أعمق لأثر المال في تشكيل الرغبات وتوجيه السلوك، فالعالم الذي يواجهه هذا الجيل تحكمه لغة الأرقام وسرعة الإغراء، ويحتاج إلى من يرشده إلى أن المال وسيلة تستخدم، لا هدف يطارد ، وفي الكتاب ذاته، يحذّر المؤلفان من أن وسائل التواصل تحوّلت إلى سلاح جماهيري يستثمر في الغرائز لتحقيق أرباح هائلة، ومواجهة هذا الواقع تتطلب ما يتجاوز النصيحة العابرة، فهي بحاجة إلى بناء قدرة نقدية، وتدريب عملي على المهارات، وترسيخ قيم لا تهتز تحت ضغط السوق.
إذا استمر الصمت، فلا عجب أن يتحول المحتوى الذي يثير الاستياء اليوم إلى مشهد مألوف في الغد، فالمشكلة لا تعالج بالمنع وحده، وإنما تتطلب بناء وعي جمعي قادر على التمييز، وتشكيل موقف مجتمعي ناضج يعيد توجيه البوصلة، الأمر يحتاج إلى خطوة حاسمة تستعيد التوازن بين الحرية والمسؤولية، وقراءة كتاب شبه حرب: تسليح وسائل التواصل الاجتماعي، لمؤلفيه بي دبليو سينجر وإيمرسون تي بروكينغ، قد تمثل بداية مناسبة، فهو يعرض الواقع كما هو، ويقدم أدوات فكرية لفهم ما يحدث والتعامل معه بوعي وبعد نظر.
بقلم المحامي/ محمد بن سعيد المعمري
شـــــــركة الـــــمـــعمري والـــــســعيدي
محــــامون ومستشــــــارون في القانون
هاتف: 90605000
البريد الالكتروني: info@mflegal.net - mohd@mflegal.net