لماذا تتصدع العلاقات الزوجية؟ تأملات في عمق الأزمة
- Almamri & Assaidi
- 26 مارس
- 3 دقائق قراءة

هذا المقال في الأساس كان ردا على مناشدة قرأتها في منشور على تطبيق X للمطالبة بإنشاء محكمة أسرة متخصصة، ومع كامل الإحترام للنوايا الحسنة:
في دعاوى طلب التطليق التي يرفعها أحد الزوجين أمام القضاء، جرت فلفسة العدل على مسار متأنٍ يراعي قدسية الرابطة الزوجية وما يترتب عليها من تبعات إنسانية واجتماعية، ففي الجلسة الأولى، يمنح القاضي الطرفين مهلة تمتد شهر كاملا، تعد بمثابة فترة تأمل وتهيئة تتيح استشراف آفاق الوفاق وتمنح الزوجين فسحة لإعادة النظر في أمرهما بعيدًا عن وطأة الخصومة القضائية، ومع انقضاء هذه المهلة، تشرع المحكمة في استئناف نظر الدعوى، فتعرض من جديد مسالك الصلح، مستقصية أسباب الشقاق ومستمعةً إلى صوت الطرفين.
هذا النهج يجسد حكمة عميقة، فالقصد ليس التعجيل بحسم النزاع، وإنما استنفاد جميع فرص الإصلاح حرصا على حماية كيان الأسرة، ذلك الصرح الرفيع، قبل اتخاذ أي قرار ينهي العلاقة الزوجية، ومن هنا تبرز فكرتك بوصفها رؤية تستشرف حاجة المجتمع إلى تطوير آليات التعامل مع الشؤون الأسرية.
فكرة المقترح تبرز رؤية تستشرف حاجة المجتمع إلى تطوير آليات التعامل مع الشؤون الأسرية، لكن قبل النظر في جدواها، تأملوا حولكم: هل تنعم ظروف العلاقات الزوجية بالاستقرار؟ لماذا يعلو صوت الشكوى من معظم المتزوجين؟ ألا نلمح شكاوى متلاحقة، وتوتر لا ينقطع، أو صمت ممزوج بالاحتقان؟ طيب.. هل طبيعة العلاقة والحياة الزوجية أن تتشكل على هذه الصورة المضطربة؟
وعلى هذا الأساس، لا ينحصر النقاش في الخلافات التي تطرق أبواب المحاكم؛ فثمة أزمات كثيرة تظل صامتة، لكنها تعكس شرخا عميقا في صرح الأسرة، هذا المشهد إن لاحظتموه في محيطكم، يكشف أن التحدي لا يقتصر على نزاع ينتظر حكم قاضٍ؛ بل إنه يستدعي إعادة تأمل شاملة في أسس المنظومة الأسرية وروافدها.
وكما هو معلوم لدى معظم الناس، الزواج رابطة إنسانية سامية تتغذى على ينابيع المودة والرحمة والتفاهم، بوصفه نسيج دقيق يتجاوز حسابات المادة والمنفعة العابرة، فإذا غلب عليه التوتر والشكوى، فهل هذا مصيره الطبيعي؟ وعندما تتسرب الخلافات إلى كيان الأسرة ، لا يعد التقاضي السبيل الأمثل لاستعادة توازنه؛ فالمطلوب فهم يغوص في الأعماق، وإصلاح يرتقي بالنفوس، ودعم يحتضن الروابط من حولها.
ومن هذا المنظور، يصعب أن نسلم بأن محكمة الأسرة تكون العلاج الشافي لكل جرح زوجي، فبينما قد تتسع العلاقات التجارية للنزاع كجزء من طبيعتها الخاصة، تتأسس العلاقة الزوجية على دعائم السكينة والهدوء، وبالتالي فإن أي اهتزاز في أركانها لا يختزل في ملف قانوني؛ فهو أزمة إنسانية واجتماعية تتطلب تدخلا يمتد إلى أبعد من الأحكام.
وعلى صعيد آخر لم تقتصر تجارب أمم ناجحة في تقليص وثائق الطلاق على صيغ قضائية؛ فقد استندت إلى تهيئة الأزواج قبل عقد الرابطةالمقدسة، وتنويرهم بمسؤولياتهم، وإمدادهم برؤية واقعية لما ينتظرهم في مسيرتهم الزوجية، وقد أثمرت هذه المبادرات نجاحا، لأن الشراكة تشتد عزائمها حين تبنى على أرضية من الوعي الراسخ، فهل يُعقل إذن أن تتحول الحياة الزوجية إلى ساحة صراع بدلا من واحة انسجام؟
كذلك، لا يمكن أن نغفل دور العوامل الاقتصادية في صون الأسرة. فالمجتمعات التي مدت يد العون للشباب في مستهل حياتهم —كتيسير الزواج عبر صناديق الدعم، وتوفير السكن ودعم المعيشة— لاحظت انحسارا واضحا في حالات الطلاق؛ إذ كثيرًا ما تشعل الضغوط المالية فتيل الخلافات بين الزوجين.
ومن جانب آخر تتبوأ الثقافة المجتمعية مكانة محورية في تقوية أواصر الأسرة؛ فالمجتمعات التي تعلي من شأن الزواج، وتفتح أبواب الحوار، وتحافظ على مسالك الصلح، استطاعت أن تخفف من وطأة النزاعات، ليس بمجرد ضوابط قانونية؛ بل لأنها تزرع قيم التفاهم والاحترام في أعماق النسيج الاجتماعي، فإذا كانت الشكوى هي الطابع السائد، فهل نعيش اختلالا ثقافيا يستحق التفكير؟!
ولهذا السبب قد تكون محكمة الأسرة خطوة محمودة ضمن منظومة إصلاحية، لكن استقرار الأسرة يستلزم رؤية أرحب تتضمن تهيئة الأزواج، وإثراء التثقيف الأسري، وتهيئة بيئة حياة متوازنة، وتطوير خدمات الإرشاد الأسري، وصياغة سياسات اجتماعية واقتصادية تحتفي باحتياجات الأسرة المعاصرة.
وفي سياق مجتمعنا، ينبغي أن ننظر إلى المحكمة المتخصصة كعنصر ضمن شبكة حلول متكاملة، لا كملاذ وحيد، فما نحتاجه هو استراتيجية وطنية راسخة تنبع من إدراك دقيق لجذور التحديات، وتستقي من التجارب العالمية الناجحة ما يتناغم مع تعاليم الدين الإسلامي، وهويتنا الثقافية والاجتماعية، مع رفع راية استقرار الأسرة كأولوية عليا.
وحينئذ يمكن أن نشهد مجتمعا أسريا ينبض بالتماسك، وأجيالا تنمو في أحضان بيئة راسخة تقوم على الوعي، والتكافؤ، والدعم المتبادل، لا على مجرد أحكام قضائية؛ فالحياة الزوجية جديرة بأن تكون منارة سلام واطمئنان، لا حلبة للنزاعات الدائمة.
بقلم المحامي/ محمد بن سعيد المعمري
شـــــــركة الـــــمـــعمري والـــــســعيدي
محــــامون ومستشــــــارون في القانون
هاتف: 90605000
البريد الالكتروني: info@mflegal.net - mohd@mflegal.net