top of page

مسائل الأحوال الشخصية بين الحقوق والنزاعات لا كاسب ولا خاسر



كثيرًا ما يُقال إن الدعاوى الشرعية من أسهل الدعاوى، ويمكن لأي محامٍ أن يخوض غمارها دون عناء، وكأنها باب رزق مفتوح دون اشتراطات أو تعقيدات، غير أن هذا الرأي بعيد عن الصواب؛ فهذه الدعاوى من أكثر المسائل تعقيدًا وتأثيرًا على الأفراد والأسر والمجتمع بأسره.

الدعوى الشرعية لا تبدأ عند رفعها، ولا تنتهي عند صدور الحكم أو تنفيذه؛ إذ تمتد آثارها منذ لحظة انعقاد العقد، مرورًا بمرحلة الخلاف، وانتهاءً بما يترتب عليها من حقوق والتزامات تستمر لسنوات، وحين يكون القضاء هو الفيصل بين زوجين كانا بالأمس يتقاسمان الحياة، تتحول الخصومة إلى أمر بالغ الحساسية، يمس النفوس قبل أن يمس الأوراق، وليس كل من تصدى لهذه القضايا قادرًا على فهم أبعادها؛ فالمحامي لا يكفي أن يكون ملما بالنصوص القانونية المجردة، وإنما يحتاج إلى دراية بالأحكام الشرعية أيضا، ومعرفة بعضا من جوانب علم النفس وعلم الاجتماع، إضافة إلى إدراك الأعراف والتقاليد التي تحكم المجتمع؛ فالطلاق ليس مجرد إجراء قانوني بقدر ما هو تغيير جذري في حياة الأفراد، وهو ما يجعل هذه الجوانب ضرورية في فهم القضية ومعالجتها بطريقة متزنة، فعلى سبيل المثال فهم الأحكام الشرعية يتيح للمحامي فهم الطلاق الرجعي بحيث يكون للزوج مراجعة زوجته خلال العدة دون الحاجة إلى عقد جديد، أما الطلاق البائن بينونة صغرى فلا تحل فيه الزوجة إلا بعقد ومهر جديدين، والطلاق البائن بينونة كبرى لا تحل فيه إلا بعد زواج صحيح بآخر. قال الله تعالى: "الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ" (البقرة: 229). كما أن معرفة الحقوق الشرعية للمطلقة من نفقة العدة، وحق المتعة، ونفقة الصغار ، وحق المحضون في الحضانة أو الاستصحاب أو الزيارة وفق ما تقتضيه مصلحتها، هي أمور لا يمكن إغفالها؛ إذ إن التوجيه الصحيح في هذه المسائل يساعد على تقليل النزاعات وتجنب تصعيد الخلافات.


قبل رفع الدعوى، وتحديدا في لحظة المشورة، غالبا ما يكون الطرفان في حالة من التوتر والانفعال العاطفي، مما قد يدفع إلى قرارات غير مدروسة تؤدي إلى تعقيد الخلاف أكثر مما تحلها، وهنا تأتي أهمية فهم الحالة النفسية والاجتماعية للموكل، حيث إن بعض النزاعات تكون ناتجة عن سوء تفاهم أو احتقان عاطفي مؤقت يمكن تجاوزه دون اللجوء إلى القضاء، وفي هذه المرحلة، يمكن تقديم المشورة التي تساعد في تهدئة النزاع أو إيجاد حلول ودية تحقق المصلحة للطرفين، أما حين تصبح الدعوى أمرًا لا مفر منه، فإن المعرفة القانونية الدقيقة تصبح الأساس الذي يُبنى عليه كل إجراء، بدءًا من طلب الحقوق وانتهاءً بتنفيذ الحكم.


القانون يحدد آلية التقاضي وينظم الحقوق والواجبات، ومن الضروري أن يكون المحامي على دراية بالإجراءات المتعلقة بالتطليق، أو الخلع، وما يتبعهما من آثار، وآلية التعامل مع الممتلكات المشتركة في كيفية تقسيمها، وما هي الدائرة المختصة في المحكمة، حتى يتمكن من تقديم الاستشارات التي تحمي حقوق موكله ضمن الأطر القانونية، وأما الأعراف والتقاليد تلعب دورًا في تشكيل طبيعة النزاعات الأسرية وطريقة التعامل معها؛ فبعض المجتمعات تحرص على حل الخلافات الزوجية عبر الوساطة العائلية قبل اللجوء إلى المحاكم، بينما في حالات أخرى يكون القضاء هو الخيار الأول، وعند إدراك هذه العوامل يساعد في توجيه القضية نحو المسار الذي يحقق أقل ضرر ممكن للطرفين.


التقاضي في مسائل الأحوال الشخصية لا يقتصر على طلب الحقوق، فهو يشمل أيضا الحفاظ على الاستقرار الأسري حتى في حال الانفصال؛ لأن العلاقة بين المطلقين تحتاج إلى إدارة حكيمة تحول دون تحولها إلى صراع دائم، مع ضرورة الحفاظ على الحد الأدنى من الاحترام والتفاهم، خاصة إذا كان هناك أبناء، فهم الأكثر تأثرًا بهذه النزاعات. قال الله تعالى: "وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِّن سَعَتِهِ" (النساء: 130)، الانفصال قد يكون مصلحة للطرفين، مما يستدعي التعامل معه بحكمة حتى لا يتحول إلى مدخل للعداوة المستمرة.

القانون قد يمنح كل ذي حق حقه، لكن الواقع الاجتماعي والنفسي قد يجعله عبئًا ثقيلاً، لا سيما حين يكون الطلاق بداية لمشاكل جديدة مثل النفقة، والحضانة، والاستصحاب، وتغير الأحوال والظروف، مما يفرض واقعًا معقدًا يستدعي تعاملًا متزنًا لا يزيد من الخصومات، ولهذا فإن الإصلاح بين الزوجين قبل اللجوء إلى التقاضي هو الخيار الأفضل، امتثالًا لقول الله تعالى: " وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا" (النساء: 35). من يعتقد أنه كاسب في هذه الدعاوى قد يكون في واقع الأمر خاسرًا من نواحٍ أخرى، ومن خسر الدعوى قد يتحمل أعباء مضاعفة قانونيًا واجتماعيًا ونفسيًا، مما يجعل إنهاء النزاع بأقل الخسائر ضرورة ملحة، وأما المحامي أو المستشار الأسري الذي لا يملك الوعي الكافي فقد يسهم في تعميق الأزمة، بدلاً من إيجاد مخرج متزن يحفظ مصالح الجميع.


قضايا الأحوال الشخصية ليست ساحة انتصار، لكنها اختبار لقدرة الأفراد على تحقيق التوازن بين القانون والرحمة، والطلاق لا يعني دائمًا انهيار الأسرة، ولا يكون دائمًا نتيجة ظلم أو تعدٍّ، فأسلوب التعامل معه هو الذي يحدد إن كان بداية جديدة أم مأساة مستمرة. ومن أهم المبادئ التي ينبغي مراعاتها بعد الانفصال هو إبقاء الود والتعامل بالمعروف، استنادًا إلى قول الله تعالى: "وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ" (البقرة: 237)، فمن حق كل طرف أن يحفظ كرامته، ومن واجبه أيضًا ألا يحوّل الطلاق إلى صراع مفتوح يؤذي جميع الأطراف، خاصة الأبناء. وكما جاء في الأثر: "لا يدرك المرء نعمة الصحبة حتى يذوق مرارة الفراق"، ليس كل من كسب القضية كاسبًا، وليس كل من خسرها خاسرًا، فالميزان الحقيقي لا يقاس بالأحكام الصادرة، وإنما بالأثر الذي تتركه هذه القضايا في حياة من مروا بها.


بقلم المحامي/ محمد بن سعيد المعمري

شــــــــــركة الـــــمـــعمري والـــــســعيدي

محــــــــامون ومستشــــــارون في القانون

هاتف: 90605000

البريد الالكتروني: info@mflegal.net - mohd@mflegal.net

 
 
bottom of page